بوسعادة في دوامة الإسراء الحمّادي والمعراج القاسمي
عبد الرحمن طيبي
الحوار : 29 - 12 - 2009
من الصعب أن تلج ديار القوم وأنت لست منهم، كما أنه من المتعب والمرهق أن تستعير قاموس ألفاظهم بعيدا عن الذوق والتجربة الشخصية .. لكن يبقى العزاء التشبه بالقوم للالتحاق بهم ولو على سبيل المجاز .. بهذه الأفكار وعلى هذه الشعارات أزمع شلة من طاقم جريدة ''الحوار'' الغراء القيام بجولة سياحية ثقافية تواصلية إلى عاصمة الحضنة وفيافيها وكلهم عزم على ربط الماضي بالحاضر، والتاريخ بالجغرافيا والآمال بالواقع. كان اليوم ربيعيا حين غادرنا العاصمة على التباشير الأولى للصباح، كما كانت الطريق شبه فارغة زادت رحلتنا رونقا وجمالا من جمال المناظر التي تختزنها وتكتنزها الجزائر، على الضفاف وفي الأعالي وفي السفوح والأودية، كل مكان فيها يروي حكاية وقصة من قصص وبطولات هذا الشعب الأبي.
كيف لا ونحن نستودع حرمات وسياج الولي الصالح سيدي عبد الرحمن الثعالبي محملين منه برسائل الخير والبشر إلى أهالي وأعيان دولة الحماديين في مرابع صبى دولتهم وحضارتهم التي أغنت فكفت، واكتشفت فأبهرت، وكان زاد المحروسة وأولياؤها نعم الزاد، وبركاتها نعم البركات، كيف لا والسير والمسير من حضارة إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى يجمعهما المصب والمآل، والإضافة النوعية للثقافة والحضارة الإنسانية رغم صواريخ الأدعياء وقنابل الجاحدين ذات اليمين وذات الشمال.
زخم ثقافي وحركية روحية تتوق زينت الرحلة، وأذابت جليد التعب بحرارة إنجازات هذا الشعب الأبي، الذي يكره الحديث عن نفسه، ويحبذ العمل في صمت لإدراكه أبعاد وقيمة حكمته، وكأن لسان حاله وحال أعيانه لسنا ظواهر صوتية كما نربأ بأحفادنا أن يصيبهم فيروسها، عصم الله منها الأحفاد كما عصم منها الآباء والأجداد.
ونحن على هذه الحال شققنا طريقنا على حواف منطقة زواوة بثقلها وزخمها، بثقافتها وعلمها وإنجازاتها لنوصل سلام سيدي عبد الرحمن الثعالبي إلى الشيخ سيدي امحمد بن عبد الرحمن في موطن صباه، وبين عشيرته وأبنائه رغم أن له قبرا في الحامة مزار، ومكانة عند أهل المحروسة لا ترام، وثورية سرت مع الأبناء والأحفاد جعلت من لالة فاطمة نسومر وبوبغلة وبعدهما من الشيخ الحداد يذيقون الاستدمار الفرنسي وأذياله العلقم والحنظل ..
على هذه الذكريات غادرنا بلاد حمزة المتاخمة لزواوة لنلج أبواب الحضنة من سور الغزلان وديرة وعرش أولاد سيدي عيسى الولي الصالح الذي يروى عنه أنه أول من اكتشف ''البترول'' في منطقة يقال ها قطيرين قبل أن يتنبه لها الاستدمار الفرنسي بمئات السنين، اتخذ منه ''قطرانا'' دواء لإبله وغنمه من جربها، اتفقت الشلة على الترجل أمتارا عديدة على الأرض التي سميت باسمه ''مدينة سيدي عيسى'' فكان لنا فيها شرف ارتشاف قهوتها، والحديث مع بعض ناسها والتطلع إلى وجوه وتقاليد أهلها ولنا غير ذلك مآرب أخرى، كشفت لنا طيبة أهلها وتقديرهم ل ''الحوار'' عنوانا وطاقما، أغنت شهاداتهم وحديثهم الشيق معنا خزان سيارتنا من التزود بالوقود، وتلك بركة من بركات ''سيدي عيسى '' ربما.
دعوات وابتسامات كان لها الأثر الجميل وهي تطوي لنا المسافات ونحن قاصدين مدينة بوسعادة، مدينة سيدي ثامر، ونصر الدين دينيه، فلم نشعر بأنفسنا إلا ونحن نتجول في أرجائها، ونستنشق هواءها ونلتمس سحرها الذي جعل من المستشرق الفرنسي إيتيان دينيه يصالح فطرته، ويعثر على مقصوده، ليخط بعدها رحلته إلى مكة المكرمة ''الحج إلى بيت الله الحرام''، كنتيجة طبيعية لرحلته في أعماق نفسه، وهو يحاور أعماق نفوس ساكنة بوسعادة وأهلها، ويسبح في بحار حميميتهم وطيبة أنفسهم، وعراقة ثقافتهم، حتى إن سليمان بن براهيم كان نعم المعلم ونعم الصديق المؤنس، ونعم الصاحب الساحب، وفي لوحة الصلاة التي رسمها كفاية وغنية وافتخار وأمل في عز الاستدمار والخبث والنيل من ثقافة وهوية الجزائر.
استحضار لوحة الصلاة التي رسمها الفنان المستشرق العائد إلى فطرته، والموجودة في كثير من مكاتب الرسميين عندنا في الجزائر، وإيحاءات تلك اللوحة عضدت وصايا المشائخ والأولياء من المحروسة إلى بوسعادة، التي لا يمكن مغادرتها دون زيارة معلم ثقافي وحضاري فيها على المرتفعات المتاخمة لجبال أولاد نايل في الجنوب الغربي من مدينة أبي سعادة، هذا المعلم المؤسس في فترة مقاومة الأمير عبد القادر للغزاة الفرنسيين من قبل الشيخ والإمام المربي سيدي محمد بن أبي القاسم الحسني سنة 1864 بالهامل، والمعروفة بزاوية الهامل القاسمية العامرة، المعروف تاريخها في التربية والتعليم ودعم الثورات على المستدمر الغاشم بالمال والأنفس، وذات المكانة المركزية، والقوة الرمزية لدى أتباع الطريقة الرحمانية الخلوتية في ربوع الجزائر، وهي إحدى أشهر الطرق الصوفية في الجزائر التي لها امتدادات شعبية قوية، على غرار الطرق أو المدارس السلوكية الأخرى.
زخم ثقافي وروحاني إضافي أنسى محرك السيارة دورانه وهي يتخطى المنعرجات للوصول إلى الزاوية التي ما إن ولجنا أبوابها حتى قابلنا ابن شيخ الزاوية الدكتور مصطفى القاسمي الذي أحسن ضيافة ''الحوار'' مؤكدا أنها قطعة منهم، لا يمر يوم دون تصفحها، والاطلاع على جديدها، والتنويه بإرادة طاقمها.
وعلى رشفات القهوة والشاي وتبادل أطراف الحديث عن شيء من الجغرافيا والأنساب، وأشياء عن التاريخ الحافل لزوايا العلم والقرآن في الجزائر وفي المنطقة بالخصوص، ليسلمنا أمانة إلى مقدم الزاوية الشيخ قويدر حرزلي الذي طاف بنا في مختلف مرافق الزاوية، وقدم لنا شروحا ومعلومات عن تاريخها وآفاق تجديدها وتوسعتها على أمل الجعل منها قطبا تعليميا ومنارة مشعة تليق بمقامها ومقام المنطقة والطريقة التي تنتسب إليها.
فهذه مكتبة، وتلك مراقد، وهذا متحف جمع من أصداف التاريخ التربوي والثوري والمقاوماتي للزاوية من عهد الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة مرورا بالمقاومات الشعبية المختلفة والثورة التحريرية الكبرى التي كنس على إثرها آخر مستدمر فرنسي من هذه الأرض الطيبة الطاهرة، لتبدأ دورها في إعادة بعث الهوية والروح الثقافية الأصلية لبلد المليون ونصف المليون شهيد، لم يوقف دهشتنا واستغراقنا في التاريخ والتدرج في مقامات الاعتراف بالدور المحوري لهكذا أماكن إلا ودعوات الكرم الحاتمي تطال ''الحوار'' تنفسيا واستعداد لما هو آت.
تمر صحراوي، ولبن بوسعادي، ولحم طير هاملي ينفع ولا يضر، يقوي العود ويفتح الشهية لمعرفة المزيد عن تاريخ هذا المعلم الكبير، لم يوقف تحليق الأذهان والأفكار إلا آذان صلاة الظهر صادحا بالمكان، وطاردا لشياطين الخنوع والاستيلاب، زادها طردا دعاء إمام الصلاة عقبها طويلا دون كلل أو ملل بكل خشوع وخنوع جعلنا نستحضر بقوة ونحني بإجلال أمام ما صوره الرسام نصر الدين دينيه في لوحة الصلاة قبل قرابة القرن من الزمان في مدينة بوسعادة.
ولم نخرج عن الوقار والحكمة حتى زدنا إيغالا فيه ونحن نستقبل من قبل الرجل الأول في الزاوية الشيخ محمد المأمون القاسمي الذي خصص ل ''الحوار'' جزءا من وقته الثمين، وأسدى لها من النصح والاقتراح وهو يرى نفسه شريكا فيها، كيف لا وهو من قرائها، معتبرا إياها أي ''الحوار'' إضافة نوعية في نصرة الحرف العربي، ومساحة لعرض كفاءات شبابا الاستقلال في معركة البناء الثقافي والتشييد الروحي، صيانة لبيضة الأمة وحماية لها من كل مكروه.
دردشة على قصر وقتها، وعلى متعة حديثها، ورونق ألفاظها، وإيغالها في الآمال المستقبلية بأرجل فولاذية راسخة في التاريخ، أنستنا متاعب الطريق، هونت من شقة العودة إلى الديار .. إلى حياض سيدي عبد الرحمن الثعالبي بالجزائر المحروسة بعد نظرة خاطفة على مشروع الترميم والتوسعة، وجلسة روحانية على جوانب ضريح المؤسس الأول الشيخ سيدي محمد بن أبي القاسم، امتزجت فيها روائح البخور بعطور قداسة المكان، ودعوات الشيخ محمد المأمون القاسمي الحسني تسارع خطاها إلى السماء بالتوفيق ل ''الحوار'' ولطاقمها في معركة الوجود التي تختزل المعارك كلها على أمل العودة مرة أخرى وتالية إلى هذا المعلم الجليل، لنعود بالرسالة إلى مرسلها الأول مارين ونحن في طريق العودة على عاصمة الحماديين الأولى.
زاوية الهامل
- التاريخ والأدوار -
من المعالم الحضارية والصروح الثقافية التي تزخر بها بلادنا، والتي يحق لها أن تفتخر بها وتتباهى: زاوية الهامل.فهي من المؤسسات العلمية التي أنشئت في منتصف القرن التاسع عشر، وأدت دورا هاما وأساسيا في المحافظة على أصالة وقيم هذا الشعب الدينية والروحية والثقافية. والتي قال عنها الباحث الفرنسي الكبير الأستاذ جاك بيرك: إن تاريخ زاوية الهامل يهم تاريخ المغرب بأسره, من حيث المجهود الذي بذلته بكل عزم في زمن الاستعمار، وذلك باستنهاض القيم الروحية والاجتماعية التي تقوم مقام ملجأ للناس. تقع هذه الزاوية المباركة المجاهدة، على بعد حوالي 250كم جنوب الجزائر العاصمة، بالقرب من مدينة بوسعادة المدينة السياحية المعروفة.أسسها الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي، وهو من كبار رجالات التصوف والعلم بالجزائر في منتصف القرن التاسع عشر، تم تأسيسها في ظروف صعبة، بعد التشديد على المدارس القرآنية والزوايا والضغط عليها، وعدم السماح بإنشاء هذا النوع من المؤسسات الذي تفطنت السلطات الاستعمارية لخطره، بعد مشاركة الزوايا والطرق الصوفية في معظم الثورات التي قامت ضد المحتل الأجنبي، بل نجد أن معظم الثورات كان قادتها هم شيوخ زوايا وزعماء طرق صوفية، فهناك الشيخ الأمير عبد القادر، بوشوشة، عبد الحفيظ الخنقي ,1849 الشريف بوبغلة 1850م، الصادق بن الحاج المصمودي ,1859 الشيخ الحداد 1871وبالرجوع إلى كتابات الفرنسيين أنفسهم يتجلى لنا دور الزاوية فيتكلم أوغسطين بيرك عن تطرف الرحمانية التي تسببت في كل الثورات، ويرى أن سلطان الطرق الصوفية يغذي دائما التطرف ضد المحتل لدى أتباعهم.ويرى أيضا أن نجاح الأمير عبد القادر في التفاف المجاهدين حوله راجع إلى أنه ابن طريقة. وهي حقيقة تنكر لها كثير من باحثينا، أو حاولوا على الأقل تجاهلها وتناسيها لحاجة في نفس يعقوب .وقد أدت هذه الزاوية الرمز أدوارا عدة في تاريخ هذا الشعب المقاوم، علمية دينية ثقافية اجتماعية اقتصادية.نتناول التعريف بهذا المعلم الحضاري، الأدوار التي قامت بها الزاوية الهاملية القاسمية: العلمية، السياسية، الاجتماعية، الثقافية...منذ نشأتها سنة 1862 إلى غاية الاستقلال، متابعة التطورات والمشاركة في الحياة الاجتماعية، المساهمة في الفعل الحضاري، والمحافظة على العادات والتقاليد الاجتماعية.
الدور العلمي عملت الزاوية القاسمية على نشر القرآن، وتخرج منها أعداد هائلة من حفظة القرآن من معظم نواحي القطر الجزائري، وفي تقرير للسلطات الفرنسية نجد أن عدد الطلبة سنويا يتراوح بين 200و 300 وهو عدد لا يستهان به مقارنة بالظروف المحيطة آنذاك، وكان يدرسهم حوالي 19 أستاذا، منهم الشيخ إدريس، عاشور، محمد بن عبد الرحمن الديسي، محمد بن الحاج محمد….الخ.طريقة حفظه هي الطريقة المعروفة في كامل المغرب العربي، بواسطة اللوحة. وهي قطعة من الخشب صغيرة، حجرة الصلصال تمحى بها اللوحة عند حفظ الآيات المكتوبة، الصمغ: المصنوع من الصوف التقليدي والحبر، القلم: وهو مصنوع من القصب المحلي الموجود على ضفاف الوادي.بعدها ينتقل الطالب إلى تلقي مختلف العلوم الشرعية، فيمكن له الالتحاق بحلقة الفقه أو اللغة أو التفسير طبعا مع احترام البرامج والنظام المطبق داخل الزاوية. وهناك مستويات للأخذ والتلقي: مستوى أول، مستوى ثاني، مستوى أعليكانت تدرس العلوم والفنون المعروفة في تلك الفترة: الفقه، التفسير، الحديث، النحو والبلاغة.ازدادت الأمور تعقيدا خصوصا بعد مجيء الحكومة الماسونية 1871 قيام الجمهورية الثالثة، والتي ضيقت الخناق على الزوايا والمدارس الحرة وفرضت القوانين والأحكام الجائرة لمراقبتها والحد من نشاطها. توضع المدارس الخاصة الإسلامية- مدرسة قرآنية، مسيد، زاوية، مدرسة تحت مراقبة وتفتيش السلطات المحددة بواسطة قانون 30 أكتوبر .1886 مراقبتها إذا كانت محرضة أم لا ضد الدستور، وأصبح فتح زاوية يقتضي تصريحا من السلطات الرسمية.وكانت زاوية الهامل تتمتع بنوع من الحرية المراقبة، وكان عليها أن تعي هذه الحقيقة جيدا وتتعامل مع هذا المعطى بذكاء كي لا تتعرض للإغلاق وتستمر في أداء رسالتها التعليمية الإصلاحية.إن الحكم على الموقف يتطلب التأمل والنظر في الظروف المحيطة به، إن تأسيس زاوية لتدريس العلوم الشرعية في العهد الاستعماري أمر من الصعوبة بمكان، وتكتنفه مخاطر جمة وعراقيل عظيمة، قد نقول أنها أسست في 1863 قبل صدور قوانين التضييق والإغلاق، لكن مسايرتها للظروف ومحاولة التغلب عليها ونشاطها الخفي السري في مواجهة الاستعمار وتحضير القاعدة الصلبة لمواجهة العدو كل هذا تطلب جهدا جبارا وصبر وشجاعة عظيمين.وقد كان الأستاذ بن أبي القاسم بنفسه يختار الكتب التي يدرسها ويشرحها لتلامذته، ككتاب الواحدي في التفسير وابن أبي جمرة في الحديث والرسالة القشيرية في التصوف، وقد كان لا يترك الدروس في علوم عديدة من الفقه والتفسير والحديث والنحو والكلام وغير ذلك، أما الفقه فقد كان من سنة 1278 إلى 1288 يتولى درس الفقه بنفسه ثم فوض تدريسه إلى نجباء طلبته.
عبد الرحمن طيبي
الحوار : 29 - 12 - 2009
من الصعب أن تلج ديار القوم وأنت لست منهم، كما أنه من المتعب والمرهق أن تستعير قاموس ألفاظهم بعيدا عن الذوق والتجربة الشخصية .. لكن يبقى العزاء التشبه بالقوم للالتحاق بهم ولو على سبيل المجاز .. بهذه الأفكار وعلى هذه الشعارات أزمع شلة من طاقم جريدة ''الحوار'' الغراء القيام بجولة سياحية ثقافية تواصلية إلى عاصمة الحضنة وفيافيها وكلهم عزم على ربط الماضي بالحاضر، والتاريخ بالجغرافيا والآمال بالواقع. كان اليوم ربيعيا حين غادرنا العاصمة على التباشير الأولى للصباح، كما كانت الطريق شبه فارغة زادت رحلتنا رونقا وجمالا من جمال المناظر التي تختزنها وتكتنزها الجزائر، على الضفاف وفي الأعالي وفي السفوح والأودية، كل مكان فيها يروي حكاية وقصة من قصص وبطولات هذا الشعب الأبي.
كيف لا ونحن نستودع حرمات وسياج الولي الصالح سيدي عبد الرحمن الثعالبي محملين منه برسائل الخير والبشر إلى أهالي وأعيان دولة الحماديين في مرابع صبى دولتهم وحضارتهم التي أغنت فكفت، واكتشفت فأبهرت، وكان زاد المحروسة وأولياؤها نعم الزاد، وبركاتها نعم البركات، كيف لا والسير والمسير من حضارة إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى يجمعهما المصب والمآل، والإضافة النوعية للثقافة والحضارة الإنسانية رغم صواريخ الأدعياء وقنابل الجاحدين ذات اليمين وذات الشمال.
زخم ثقافي وحركية روحية تتوق زينت الرحلة، وأذابت جليد التعب بحرارة إنجازات هذا الشعب الأبي، الذي يكره الحديث عن نفسه، ويحبذ العمل في صمت لإدراكه أبعاد وقيمة حكمته، وكأن لسان حاله وحال أعيانه لسنا ظواهر صوتية كما نربأ بأحفادنا أن يصيبهم فيروسها، عصم الله منها الأحفاد كما عصم منها الآباء والأجداد.
ونحن على هذه الحال شققنا طريقنا على حواف منطقة زواوة بثقلها وزخمها، بثقافتها وعلمها وإنجازاتها لنوصل سلام سيدي عبد الرحمن الثعالبي إلى الشيخ سيدي امحمد بن عبد الرحمن في موطن صباه، وبين عشيرته وأبنائه رغم أن له قبرا في الحامة مزار، ومكانة عند أهل المحروسة لا ترام، وثورية سرت مع الأبناء والأحفاد جعلت من لالة فاطمة نسومر وبوبغلة وبعدهما من الشيخ الحداد يذيقون الاستدمار الفرنسي وأذياله العلقم والحنظل ..
على هذه الذكريات غادرنا بلاد حمزة المتاخمة لزواوة لنلج أبواب الحضنة من سور الغزلان وديرة وعرش أولاد سيدي عيسى الولي الصالح الذي يروى عنه أنه أول من اكتشف ''البترول'' في منطقة يقال ها قطيرين قبل أن يتنبه لها الاستدمار الفرنسي بمئات السنين، اتخذ منه ''قطرانا'' دواء لإبله وغنمه من جربها، اتفقت الشلة على الترجل أمتارا عديدة على الأرض التي سميت باسمه ''مدينة سيدي عيسى'' فكان لنا فيها شرف ارتشاف قهوتها، والحديث مع بعض ناسها والتطلع إلى وجوه وتقاليد أهلها ولنا غير ذلك مآرب أخرى، كشفت لنا طيبة أهلها وتقديرهم ل ''الحوار'' عنوانا وطاقما، أغنت شهاداتهم وحديثهم الشيق معنا خزان سيارتنا من التزود بالوقود، وتلك بركة من بركات ''سيدي عيسى '' ربما.
دعوات وابتسامات كان لها الأثر الجميل وهي تطوي لنا المسافات ونحن قاصدين مدينة بوسعادة، مدينة سيدي ثامر، ونصر الدين دينيه، فلم نشعر بأنفسنا إلا ونحن نتجول في أرجائها، ونستنشق هواءها ونلتمس سحرها الذي جعل من المستشرق الفرنسي إيتيان دينيه يصالح فطرته، ويعثر على مقصوده، ليخط بعدها رحلته إلى مكة المكرمة ''الحج إلى بيت الله الحرام''، كنتيجة طبيعية لرحلته في أعماق نفسه، وهو يحاور أعماق نفوس ساكنة بوسعادة وأهلها، ويسبح في بحار حميميتهم وطيبة أنفسهم، وعراقة ثقافتهم، حتى إن سليمان بن براهيم كان نعم المعلم ونعم الصديق المؤنس، ونعم الصاحب الساحب، وفي لوحة الصلاة التي رسمها كفاية وغنية وافتخار وأمل في عز الاستدمار والخبث والنيل من ثقافة وهوية الجزائر.
استحضار لوحة الصلاة التي رسمها الفنان المستشرق العائد إلى فطرته، والموجودة في كثير من مكاتب الرسميين عندنا في الجزائر، وإيحاءات تلك اللوحة عضدت وصايا المشائخ والأولياء من المحروسة إلى بوسعادة، التي لا يمكن مغادرتها دون زيارة معلم ثقافي وحضاري فيها على المرتفعات المتاخمة لجبال أولاد نايل في الجنوب الغربي من مدينة أبي سعادة، هذا المعلم المؤسس في فترة مقاومة الأمير عبد القادر للغزاة الفرنسيين من قبل الشيخ والإمام المربي سيدي محمد بن أبي القاسم الحسني سنة 1864 بالهامل، والمعروفة بزاوية الهامل القاسمية العامرة، المعروف تاريخها في التربية والتعليم ودعم الثورات على المستدمر الغاشم بالمال والأنفس، وذات المكانة المركزية، والقوة الرمزية لدى أتباع الطريقة الرحمانية الخلوتية في ربوع الجزائر، وهي إحدى أشهر الطرق الصوفية في الجزائر التي لها امتدادات شعبية قوية، على غرار الطرق أو المدارس السلوكية الأخرى.
زخم ثقافي وروحاني إضافي أنسى محرك السيارة دورانه وهي يتخطى المنعرجات للوصول إلى الزاوية التي ما إن ولجنا أبوابها حتى قابلنا ابن شيخ الزاوية الدكتور مصطفى القاسمي الذي أحسن ضيافة ''الحوار'' مؤكدا أنها قطعة منهم، لا يمر يوم دون تصفحها، والاطلاع على جديدها، والتنويه بإرادة طاقمها.
وعلى رشفات القهوة والشاي وتبادل أطراف الحديث عن شيء من الجغرافيا والأنساب، وأشياء عن التاريخ الحافل لزوايا العلم والقرآن في الجزائر وفي المنطقة بالخصوص، ليسلمنا أمانة إلى مقدم الزاوية الشيخ قويدر حرزلي الذي طاف بنا في مختلف مرافق الزاوية، وقدم لنا شروحا ومعلومات عن تاريخها وآفاق تجديدها وتوسعتها على أمل الجعل منها قطبا تعليميا ومنارة مشعة تليق بمقامها ومقام المنطقة والطريقة التي تنتسب إليها.
فهذه مكتبة، وتلك مراقد، وهذا متحف جمع من أصداف التاريخ التربوي والثوري والمقاوماتي للزاوية من عهد الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة مرورا بالمقاومات الشعبية المختلفة والثورة التحريرية الكبرى التي كنس على إثرها آخر مستدمر فرنسي من هذه الأرض الطيبة الطاهرة، لتبدأ دورها في إعادة بعث الهوية والروح الثقافية الأصلية لبلد المليون ونصف المليون شهيد، لم يوقف دهشتنا واستغراقنا في التاريخ والتدرج في مقامات الاعتراف بالدور المحوري لهكذا أماكن إلا ودعوات الكرم الحاتمي تطال ''الحوار'' تنفسيا واستعداد لما هو آت.
تمر صحراوي، ولبن بوسعادي، ولحم طير هاملي ينفع ولا يضر، يقوي العود ويفتح الشهية لمعرفة المزيد عن تاريخ هذا المعلم الكبير، لم يوقف تحليق الأذهان والأفكار إلا آذان صلاة الظهر صادحا بالمكان، وطاردا لشياطين الخنوع والاستيلاب، زادها طردا دعاء إمام الصلاة عقبها طويلا دون كلل أو ملل بكل خشوع وخنوع جعلنا نستحضر بقوة ونحني بإجلال أمام ما صوره الرسام نصر الدين دينيه في لوحة الصلاة قبل قرابة القرن من الزمان في مدينة بوسعادة.
ولم نخرج عن الوقار والحكمة حتى زدنا إيغالا فيه ونحن نستقبل من قبل الرجل الأول في الزاوية الشيخ محمد المأمون القاسمي الذي خصص ل ''الحوار'' جزءا من وقته الثمين، وأسدى لها من النصح والاقتراح وهو يرى نفسه شريكا فيها، كيف لا وهو من قرائها، معتبرا إياها أي ''الحوار'' إضافة نوعية في نصرة الحرف العربي، ومساحة لعرض كفاءات شبابا الاستقلال في معركة البناء الثقافي والتشييد الروحي، صيانة لبيضة الأمة وحماية لها من كل مكروه.
دردشة على قصر وقتها، وعلى متعة حديثها، ورونق ألفاظها، وإيغالها في الآمال المستقبلية بأرجل فولاذية راسخة في التاريخ، أنستنا متاعب الطريق، هونت من شقة العودة إلى الديار .. إلى حياض سيدي عبد الرحمن الثعالبي بالجزائر المحروسة بعد نظرة خاطفة على مشروع الترميم والتوسعة، وجلسة روحانية على جوانب ضريح المؤسس الأول الشيخ سيدي محمد بن أبي القاسم، امتزجت فيها روائح البخور بعطور قداسة المكان، ودعوات الشيخ محمد المأمون القاسمي الحسني تسارع خطاها إلى السماء بالتوفيق ل ''الحوار'' ولطاقمها في معركة الوجود التي تختزل المعارك كلها على أمل العودة مرة أخرى وتالية إلى هذا المعلم الجليل، لنعود بالرسالة إلى مرسلها الأول مارين ونحن في طريق العودة على عاصمة الحماديين الأولى.
زاوية الهامل
- التاريخ والأدوار -
من المعالم الحضارية والصروح الثقافية التي تزخر بها بلادنا، والتي يحق لها أن تفتخر بها وتتباهى: زاوية الهامل.فهي من المؤسسات العلمية التي أنشئت في منتصف القرن التاسع عشر، وأدت دورا هاما وأساسيا في المحافظة على أصالة وقيم هذا الشعب الدينية والروحية والثقافية. والتي قال عنها الباحث الفرنسي الكبير الأستاذ جاك بيرك: إن تاريخ زاوية الهامل يهم تاريخ المغرب بأسره, من حيث المجهود الذي بذلته بكل عزم في زمن الاستعمار، وذلك باستنهاض القيم الروحية والاجتماعية التي تقوم مقام ملجأ للناس. تقع هذه الزاوية المباركة المجاهدة، على بعد حوالي 250كم جنوب الجزائر العاصمة، بالقرب من مدينة بوسعادة المدينة السياحية المعروفة.أسسها الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي، وهو من كبار رجالات التصوف والعلم بالجزائر في منتصف القرن التاسع عشر، تم تأسيسها في ظروف صعبة، بعد التشديد على المدارس القرآنية والزوايا والضغط عليها، وعدم السماح بإنشاء هذا النوع من المؤسسات الذي تفطنت السلطات الاستعمارية لخطره، بعد مشاركة الزوايا والطرق الصوفية في معظم الثورات التي قامت ضد المحتل الأجنبي، بل نجد أن معظم الثورات كان قادتها هم شيوخ زوايا وزعماء طرق صوفية، فهناك الشيخ الأمير عبد القادر، بوشوشة، عبد الحفيظ الخنقي ,1849 الشريف بوبغلة 1850م، الصادق بن الحاج المصمودي ,1859 الشيخ الحداد 1871وبالرجوع إلى كتابات الفرنسيين أنفسهم يتجلى لنا دور الزاوية فيتكلم أوغسطين بيرك عن تطرف الرحمانية التي تسببت في كل الثورات، ويرى أن سلطان الطرق الصوفية يغذي دائما التطرف ضد المحتل لدى أتباعهم.ويرى أيضا أن نجاح الأمير عبد القادر في التفاف المجاهدين حوله راجع إلى أنه ابن طريقة. وهي حقيقة تنكر لها كثير من باحثينا، أو حاولوا على الأقل تجاهلها وتناسيها لحاجة في نفس يعقوب .وقد أدت هذه الزاوية الرمز أدوارا عدة في تاريخ هذا الشعب المقاوم، علمية دينية ثقافية اجتماعية اقتصادية.نتناول التعريف بهذا المعلم الحضاري، الأدوار التي قامت بها الزاوية الهاملية القاسمية: العلمية، السياسية، الاجتماعية، الثقافية...منذ نشأتها سنة 1862 إلى غاية الاستقلال، متابعة التطورات والمشاركة في الحياة الاجتماعية، المساهمة في الفعل الحضاري، والمحافظة على العادات والتقاليد الاجتماعية.
الدور العلمي عملت الزاوية القاسمية على نشر القرآن، وتخرج منها أعداد هائلة من حفظة القرآن من معظم نواحي القطر الجزائري، وفي تقرير للسلطات الفرنسية نجد أن عدد الطلبة سنويا يتراوح بين 200و 300 وهو عدد لا يستهان به مقارنة بالظروف المحيطة آنذاك، وكان يدرسهم حوالي 19 أستاذا، منهم الشيخ إدريس، عاشور، محمد بن عبد الرحمن الديسي، محمد بن الحاج محمد….الخ.طريقة حفظه هي الطريقة المعروفة في كامل المغرب العربي، بواسطة اللوحة. وهي قطعة من الخشب صغيرة، حجرة الصلصال تمحى بها اللوحة عند حفظ الآيات المكتوبة، الصمغ: المصنوع من الصوف التقليدي والحبر، القلم: وهو مصنوع من القصب المحلي الموجود على ضفاف الوادي.بعدها ينتقل الطالب إلى تلقي مختلف العلوم الشرعية، فيمكن له الالتحاق بحلقة الفقه أو اللغة أو التفسير طبعا مع احترام البرامج والنظام المطبق داخل الزاوية. وهناك مستويات للأخذ والتلقي: مستوى أول، مستوى ثاني، مستوى أعليكانت تدرس العلوم والفنون المعروفة في تلك الفترة: الفقه، التفسير، الحديث، النحو والبلاغة.ازدادت الأمور تعقيدا خصوصا بعد مجيء الحكومة الماسونية 1871 قيام الجمهورية الثالثة، والتي ضيقت الخناق على الزوايا والمدارس الحرة وفرضت القوانين والأحكام الجائرة لمراقبتها والحد من نشاطها. توضع المدارس الخاصة الإسلامية- مدرسة قرآنية، مسيد، زاوية، مدرسة تحت مراقبة وتفتيش السلطات المحددة بواسطة قانون 30 أكتوبر .1886 مراقبتها إذا كانت محرضة أم لا ضد الدستور، وأصبح فتح زاوية يقتضي تصريحا من السلطات الرسمية.وكانت زاوية الهامل تتمتع بنوع من الحرية المراقبة، وكان عليها أن تعي هذه الحقيقة جيدا وتتعامل مع هذا المعطى بذكاء كي لا تتعرض للإغلاق وتستمر في أداء رسالتها التعليمية الإصلاحية.إن الحكم على الموقف يتطلب التأمل والنظر في الظروف المحيطة به، إن تأسيس زاوية لتدريس العلوم الشرعية في العهد الاستعماري أمر من الصعوبة بمكان، وتكتنفه مخاطر جمة وعراقيل عظيمة، قد نقول أنها أسست في 1863 قبل صدور قوانين التضييق والإغلاق، لكن مسايرتها للظروف ومحاولة التغلب عليها ونشاطها الخفي السري في مواجهة الاستعمار وتحضير القاعدة الصلبة لمواجهة العدو كل هذا تطلب جهدا جبارا وصبر وشجاعة عظيمين.وقد كان الأستاذ بن أبي القاسم بنفسه يختار الكتب التي يدرسها ويشرحها لتلامذته، ككتاب الواحدي في التفسير وابن أبي جمرة في الحديث والرسالة القشيرية في التصوف، وقد كان لا يترك الدروس في علوم عديدة من الفقه والتفسير والحديث والنحو والكلام وغير ذلك، أما الفقه فقد كان من سنة 1278 إلى 1288 يتولى درس الفقه بنفسه ثم فوض تدريسه إلى نجباء طلبته.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire