Messages les plus consultés

lundi 21 mars 2011

علاقة العلامة ابن باديس بزاوية الهامل

حيي الجزائر، في هذه السنة، الذكرى السبعين لوفاة الشيخ عبد الحميد ابن باديس رحمه الله، وفي إحياء ذكرى العلماء العاملين حفظ لحقهم، وعرفان بفضلهم، ليعرف الناس مآثرهم، وتقتدي الأجيال بسيرتهم وأعمالهم، فالعلماء الربانيون هم ورثة علم الرسالة، وخلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، في أمته، المحبون لسنته: فهم الذين يبلغون رسالات الله، بعد أنبياء الله، يهدون بالحق، وبه يعدلون، وينصرون دين الله، ويتحملون في سبيل الدعوة إليه ما يتحمّلون، وهذا ما كان عليه الشيخ عبد الحميد ابن باديس، الذي وقف حياته لخدمة دينه، وإصلاح أمته.

وقد طلب مني الأخ الفاضل الأستاذ محمد الهادي الحسني أن أكتب مقالا في مجلة "الوعي"، التي يصدر عددها الأول، بمناسبة هذه الذكرى، فاخترت أن تتناول كلمتي العلاقة الروحية التي كانت تربط الشيخ ابن باديس بالزاوية القاسمية، والزوايا الرحمانية، وتوضح نظرتنا إلى سنة الاختلاف، باعتباره تنوع وتكامل، كما تتضمن الدعوة إلى تجديد الخطاب الإسلامي، وتحسين أدواته، وتركيز اهتمامه على المعركة التي تخوضها الأمة، من أجل تحقيق ذاتها، وتثبيت عناصر هويتها، والمحافظة على مقومات شخصيتها.

فقد كانت صلة الشيخ عبد الحميد ابن باديس بالزاوية القاسمية صلة وثيقة، يعود عهدها إلى العقد الثاني من القرن العشرين، وكان شيوخها يكرمونه ويصلونه، تقديراً لعلمه وفضله، كما كانوا يفعلون مع العلماء، من أمثاله، في الجزائر، وفي مصر والشام والحجاز.

وكمثال على مشاعر الود والتقدير، التي كان يحظى بها لدى رجال الزاوية، نورد أبياتا من قصيدة، بعثها إليه الشيخ محمد بن عبد الرحمان الديسي، أبرز علماء الزاوية القاسمية، وتلميذ مؤسسها، ومما جاء فيها قوله، رحمه الله:
إلى عبد الحميد مزيد شوقي فريد العصر نبراس الزمان
كريم الأصل موفور المزايا أثيل المجد من قوم هجان
لهم في الفضل أخبار عوال تعنعن بالصحاح وبالحسان
مسلسلة بمكرمة وعلم تواثرها غني عن بيان
لقد ملك العلوم فما عصته أطاعته المباني والمعاني
فأتقن أصلها والفرع منها وءالتها كنحو مع معان
فأحيا العلم إن العلم يحيا بدرس من لوجه الله عان

أما علاقة الشيخ ابن باديس بالزوايا الرحمانية، فتنطلق بها شواهد التاريخ، ونكتفي منها الإشارة إلى وقوفه على تصحيح "المنظومة الرحمانية في الأسباب الشرعية المتعلقة بالطريقة الخلوتية"، لناظمها الشيخ عبد الرحمان باش تارزي، كما جاء في مقدمة طبعتها الصادرة في قسنطينة عام 1341هـ/1923م.

وحين انعقد العزم على إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كانت الزاوية القاسمية من الدعاة إليها، واشترك في تأسيسها اثنان من كبار رجالها، أحدهما رئيسها آنذاك، الشيخ مصطفى القاسمي، رحمه الله، ثم انضم إليها اثنان آخران من علمائها.

وفي ظل الظروف التي سادت الجمعية، بعد مضي فترة زمنية، ظهر من عكر صفو أجوائها، وعانى بسلوكه الشيخ ابن باديس ورفقاؤه ما عانوا، فكان هذا سببا فيما جرى، من بعد، بين علماء الجزائر، حيث اختار كل فريق منهم التنظيم الذي تلاءم مع نشاطه، ولكن ذلك لم يحل دون استمرار علاقات التعاون بينهم، وتوالت زيارات رجال الجمعية للزاوية القاسمية، وكان منهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ المبارك الميلي، الذي أقام فيها على فترات، ضيفا مكرما، حيث وضعت مكتبها، تحت تصرفه، لإنجاز بحثه، وإتمام تأليفه، في تاريخ الجزائر، وهو ما تشهد به رسائله إلى شيخ الزاوية، وقد تضمنت إحداها طلبه العون والمساعدة على طبع كتابه وتوزيعه.

وأما الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، فقد وقفت الزاوية معه، في محنته، بعد استعادة الاستقلال، وشدت أزره، وتضامنت مع قضيته، إلى وفاته، رحمه الله.

وإذا انتقلنا إلى تعاوننا مع جمعية العلماء، في عهدها الجديد، خلال العقدين الماضيين، تكفينا الإشارة إلى حرصنا الدائم على إشراك قيادتها، ونخبة من أعضائها، في كل التظاهرات والندوات والملتقيات، التي نظّمناها في الزواية وخارجها، ونتطلع إلى مزيد من التنسيق والتكامل، خدمة لرسالتنا المشتركة.

فنحن نومن، كما كان أسلافنا، بأن اختلافنا اختلاف تعدد وتنوع وتكامل، ولا ينبغي أن يكون اختلاف تعصب أو تنافر أو تخاصم، فالاختلاف سنة لا سبيل إلى إلغائها، أو تجاوزها، بل ينبغي فهمها وحسن التعامل معها، والإسلام يقر الاختلاف، ولا يجيز العمل لإلغائه، ويمنع إقصاء الرأي الآخر، إذ لا يمكن جمع الناس على رأي واحد، ولا يظنن أحد أنه قادر على صبهم في قالب واحد، فقد اختلف الصحابة والتابعون، والأئمة والمرضيون، والأمر لا يعدو مجالات الاجتهاد، ومواطن اختلاف النظر، وكل ذلك لا ينال إيمان أحد منهم أو تقواه، بحال من الأحوال.

فلا يجوز لأحد أن يزعم العصمة لرأيه، أو يدعي الكمال لمذهبه أو منهجه أو طريقته، فكل يؤخذ من كلامه ويرد، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، كما جاء عن الإمام مالك، رحمه الله، وكل مجتهد قابل لأن يخطئ أو يصيب، وهو في الحالتين مأجور، وأقصى ما يقوله عن نفسه ما يروى عن الإمام الشافعي، رحمه الله، "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ، يحتمل الصواب.

ومما أذكره أن مراسل صحيفة جزائرية سألني، ذات يوم، عن الخطاب الصوفي، وهل يمكن اعتباره اليوم بديلا عن الخطاب الإخواني أو السلفي، فقلت له: إن الخطاب الذي ننشده هو الخطاب الإسلامي المتكامل، ومنه الخطاب الصوفي الأصيل، والخطاب الإخواني التنويري، والخطاب السلفي الإحيائي، المتفتح على قضايا العصر ومستجدات الحياة.

إن الخطاب الإسلامي الذي نعتمده وندعو إليه، خطاب جامع، يسلك سبيل الهداية والتبشير، ويلزم منهج الوسطية والتيسير، خطاب يتوجه إلى القلب والعقل، ويتجهن في غاياته، إلى تزكية النفس، فيسعى لترقية الحياة الروحية، ولا يهمل متطلبات الحياة المادية، إنه خطاب يسعى للإصلاح بين الناس، إذا تفاسدوا، والتقريب بينهم، إذا تباعدوا، والتوفيق بينهم، إذا اختلفوا، حتى لا تتعارض مصالحهم، وتتضارب أهواؤهم، وحتى يبقى المجتمع قوي الأركان، متماسك البنيان.

إن مجتمعنا يعاني الآثار السيئة للفراغ الروحي، والاغتراب الثقافي، وطغيان الحياة المادية، وانحسار القيم والأخلاق الإسلامية، فضلا عن الغلو في الدين، وسوء الفهم للإسلام ومقاصد شريعته السمحة، حيث عرفت طائفة من شباب الأمة ظاهرة التطرف والتشدد وتجاوز الاعتدال، وأصيبت أخرى بآفة الانغلاق الفكري المفضي إلى الجمود، واتبع البعض منهجا لم يصدر فكره للأمة سوى جفاف الأرواح، واختلاف القلوب، فضلا عن تزهيد طائفة من المسلمين في قدوتهم، وحجبهم عن مصادر النور، كيلا ينفذ إلى قلوبهم.

وفي المقابل، راح البعض يعمل، بدون وعي وسوء تقدير، لإشاعة وسائل اللهو واللعب، بعنوان ترفيه الشباب وملء فراغه، وكانت، في الواقع، سبيلا إلى حياة السلبية والانحلال، وطريقا إلى عالم المجون والمخدرات.

وقد يستوقفنا السؤال الآتي: كيف السبيل إلى استدراك هذا الخلل، وما ترتب عليه من آثار سيئة، وكيف يتسنى لنا مقاومة العوامل المفضية إلى التمزيق الفكري، والاغتراب الثقافي، والتردي اللغوي، والانهزام في ميدان الثقافة والإعلام، وفي مناهج التربية والتعليم، وفي مجال المؤسسة الأسرية، المستهدفة من المخططات الرامية إلى تفكيك المجتمع، وطمس خصائصه المميزة.

وهنا نكرر ما أكدناه مرارا: إنه لا صلاح لأمرنا إلا بتغيير ما بأنفسنا، وتلك سنة الله، فمن دينه نستمد الأحكام، وبدعوته تستقيم الأحوال، والله تعالى يقول: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) الرعد آية11. والتغيير الصحيح تبدأ خطواته الأولى بالتصالح مع الذات، والعمل لبناء المستقبل على أسس متينة، وقواعد صحيحة، ترتكز على القيم الروحية والوطنية، التي كان التحامها سر تماسك مجتمعنا، عبر الأجيال، ولاسيما في أوقات المحن والشدائد في عهد الاحتلال.

إن أمتنا روحها الإسلام، وقوام حياتها الإسلام، ولا يضمن وحدتها وتلاحمها إلا الإسلام، وليس لها من عاصم، أمام هذه المخاطر، سوى الاستمساك بعقيدتها، والتحصين بقيمها وثوابتها، ورفض التنازل عن أي من خصائصها وعناصر هويتها، والتماس أسباب العزة والقوة، بالتزام أمر ربها، وإعداد ما تستطيع من قوة ترهب بها عدو الله وعدوها، كما جاء في قوله جل وعلا: (وأعدوا لهم ما استطعتم)

إن المنهج الذي ما فتئنا ندعو إليه هو المنهج الذي يبعث الطاقات الروحية في النفوس، وقاية وعلاجا، لتكون الأجيال محصنة بركن الإسلام، ومتماسكة بقيمه، ولتظل موصولة الأسباب بالأمل، دائمة الجهود في ميدان العمل، المنهج الذي يكفل الكرامة للفرد، والترابط في الأسرة، والتكافل في المجتمع.

إنه المنهج الذي يؤهلنا للنهوض المنشود، ويجعلنا قادرين على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل، وأخطرها ظاهرة العولمة التي لا تعرف الحدود، وقد تتحول بلداننا إلى سوق لمنتجاتها، وفضاء لثقافتها، إذا لم نكن نحن المسلمين، مؤهلين لمواجهتها، والتأهل المطلوب إنما يكون بإعادة بناء الذات، انطلاقا من الأسرة والمدرسة، لتحصين المجتمع، وحمايته من المخاطر التي تهدد وحدته وانسجامه وتماسكه.

إن مشاريع العولمة، وغيرها من البرامج المطروحة هنا وهناك، يعدها الغرب، ويخرجها في مخابره، ويعهد بتنفيذها إلى وكلائه، وفي مواجهة هذه الخطط المشبوهة، ينبغي للأمة أن تحذر من مخاطرها، وأن لا تنخدع بشعاراتها، أو تستجيب لمغرياتها.

فدور الإعلام في سلامة تصورات الناس أو إفسادها، دور لا يمكن تحديد مداه، وقد رأينا كيف أصبح سلطان الكلمة أنفذ ما يكون في النفوس، وزخمه يضغط على المجتمعات ضغطا قويا، ليجعلها على صورة القالب الذي صيغت عليه الكلمة المسوقة لها، فكان لزاما علينا حماية المجتمع من التصورات المضللة، ومن الكلمة المضللة التي يكسوها أصحابها ثيابا جميلة، باسم الإبداع الفني، وحرية التعبير، وهي الواقع تزين الرذيلة، وتباعد من الفضيلة، وتقلب سلم القيم، فيسمو تأثيرها ما كان وضيعا، ويسقط بها ما كان رفيعا، والمراد من ذلك تحطيم منظومة القيم الأخلاقية، وإحلال قيم هابطة محلها، لتمييع شباب الأمة، وإسقاطه في أوحال الرذيلة والفساد.

وخلاصة القول: إن ما نطمح إليه وهو برنامج تربوي متكامل، يستلهم من ذخائر تراثنا العلمي الزاخر، في المجالات: الروحية والتربوية والثقافية، ويربط، برباط محكم، بين العلم والعمل، ويجمع، في انسجام وتوازن بين الجانب التشريعي والجانب الروحي من تعاليم الإسلام، لترتبط الحياة الروحية بالحياة الاجتماعية، فذلك في تقديرنا هو المنهج الصحيح لبناء شخصية المواطن المسوية المتوازنة، وإعداده للحياة المتكاملة، المبنية على مراعاة الجمع بين العمل بالإسلام وإتباع آدابه، وبين الاجتهاد في الوصول إلى العمق الروحي للعبادات والأخلاق الإسلامية، والعمل لترقية حياة الأمة المعنوية والمادية.

إن لدينا أعظم ذخيرة من القيم الروحية والخلقية والعلمية والتربوية والاجتماعية، فإذا نحن أفدنا منها، كما أفاد منها أسلافنا، أمكننا أن نسهم بالحظ الأوفر في الإصلاح المأمول، والنهوض المنشود.

وهذا ما نريد لمؤسسة الزوايا أن تشترك في إنجازه، في انسجام وتعاون وتكامل مع جمعية العلماء، ومع القطاعات المعنية، وفي طليعتها المؤسسة المسجدية، وبقية الهيئات الإسلامية، العلمية والتربوية.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire