وزعت تجربة الكاتب الجزائري محمد قاسمي الحسني ما بين الشعر والرواية والمسرح والدراسات النقدية إلى جانب عمله الصحفي, وقد ترجمت بعض أعماله إلى الألمانية والإنكليزية, بينما عرضت نصوصه المسرحية في العديد من المسارح الأوروبية, وعلى الرغم من أن نصوصه تنتمي إلى ما يعرف بـ «أدب الذاكرة» فإن كل ما نشره هذا الكاتب, كان قد كتبه باللغة الفرنسية وفي العاصمة باريس حيث يقيم منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي, وأن تكتب الذاكرة خارج حدود مكانها الطبيعي ولغتها الأم وقرائها الأصليين, فهذه مفارقة ميزت أدب العديد من كتاب المغرب العربي. وإذا كان الجيل الأول من الكتاب المغاربة مضطرا للدراسة باللغة الفرنسية بسبب ظروف الاحتلال, فإن الحسني قد ترعرع في عهود الاستقلال, وأتاحت له ظروف نشأته التمكن من لغته الأم, فلماذا انفصل عنها وعن القراء العرب؟
حول هذا الانفصال قال لي محمد «ولدت في أحضان أسرة مثقفة ومتدينة, فأبي كان أستاذا للغة العربية وكان مولعا بابن زيدون, وجدي من جهة أبي كان فقيها, أما جدي من جهة الأم فقد كان شيخ طريقة, وقد ولدت ضمن هذا المحيط المعرب المسلم والصوفي, فكنت طفلا وجد نفسه وريث هموم عالم من زمن امرئ القيس, وكان لدي إحساس بمدى هيمنة الدين على اللغة العربية, كانت مستعمرة للإله لا مكان فيها للحرية أو الفردانية, فهي تتسع للقيامة والعبادة والوعي ولكنها لا تتسع لهموم الفرد, إنها لغة القبيلة, ولهذا السبب شيئا فشيئا هجرت اللغة العربية, وكانت هجرتي الأولى من العربية إلى الفرنسية, ثم كانت هجرتي الثانية وهي مغادرة الجزائر بشكل كامل إلى باريس, إنه الانعتاق, الاحساس بالحرية والابتعاد نوعا ما عن الذات والتراث الثقيل, والخروج عن إطار القبيلة من أجل التأمل والنظر النقدي في واقع المجتمع الجزائري والعالم العربي».
€ وكيف يستقبل الجمهور الأجنبي نصوصك؟
حين أكتب بالفرنسية أراعي في كل كتاباتي الربط بين واقع أجنبي ومجهول وواقع المجتمع الغربي في عملية ذهاب وإياب بين واقعي الأصلي وواقعي الحالي, كما أنني أركز على شعرية النص فالغلاف الشعري هو الذي يسمح للقارئ أو المشاهد أن يسافر ويحلم داخل النص, شعرية النص هي المحرك الأساسي بالنسبة الى الجمهور, وأعتقد ان كتاباتي قد لاقت استحسانا لدى القارئ الأجنبي فمثلاً نصي المسرحي «اعترافات ابراهيم» أخرج خمس مرات وترجم إلى الألمانية, ونصي الأخير «بابل» طلب إلى الولايات المتحدة وأخرج وسوف يعرض هناك.
€ هل أعجبك ما تم نقله من نصوصك إلى العربية؟
آخر نص ترجم لي هو «اعتراف إبراهيم» وهي ترجمة سيئة, فثمة من يعتبر أن الترجمة هي عملية نقل فقط, بينما اعتقد ان الترجمة هي عمل الشعراء والكتاب, فلا يكفي نقل الكلام, وإنما ينبغي تمرير روح النص ولذته».
€ بالعودة الى تقفي المفاصل الرئيسة التي حفرت ذاكرة الكاتب وهيمنت على نصوصه, نجد أنه قد ولد في مدينة الحامل بالجزائر العام 1955, أي أنه ما إن بلغ أعوامه السبعة حتى عاش حلاوة الاستقلال ونشأ وتعلم في عهوده, وهي الذاكرة التي انعكست في أول نصوصه المسرحية بعنوان «1962» وقد نشره العام 1996 وأخرجته أريان موشكين لمصلحة مسرح الشمس بعد خمسة أعوام من ذلك التاريخ, فماذا يقول عن هذه الذاكرة وعن كتابه؟
أنا حقا من جيل الاستقلال, ولم أعان كالجيل السابق من الوضع الاستعماري, وأول ما أعيه هو يوم استقلال الجزائر في الخامس من تموز €يوليو€ 1962, وكانت أول مسرحية كتبتها حول البعد الشعري والإنساني والتاريخي لهذا اليوم من خلال قصة رجل وامرأة عاشا أحلام الاستقلال ليكتشفا بعد ثلاثين عاماً أن الاستقلال لم يكن أكثر من وهم, فقد خرجت فرنسا من الجزائر, لكنهما مازالا في انتظار الاستقلال والحرية.
€ في حديثك إدانة مبطنة للرئيس بومدين؟
أعتقد أن العقل العربي مدهش باحتراف الحنين, فكل ما غاب أو فات هو جميل وليس أجمل مما أضعناه, الرجل العربي يصبح مغرما بالفعل حين يفقد حبيبته, والحاكم يصبح إلهاً حين يغيب, العرب مغرمون بتجميل كل ما فقدوه أو دمروه, أيام بومدين كانت من افظع الأيام التي عاشتها الجزائر, فقد تحولت إلى ثكنة عسكرية, مسيسة بجنون طاغية وديكتاتورية فظيعة, وفقدنا حرية الصحافة والنشر, لكن شعارات الصمود والرفض وكل هذا الفولكلور الذي أنتجه العالم الثالث, يستعيده العرب اليوم مع تأزم الوضع الاقتصادي والعالمي, وكأن بومدين كان أبا ذر الغفاري.
€ أعتقد أن أولى رواياتك «المنديل» التي نشرتها العام 1987 كانت حول تلك الفترة؟
إنها كذلك فهي عبارة عن يوميات موظف في الحزب الواحد, وتتطرق إلى الإشكاليات التي يعانيها المجتمع العربي في علاقته الجهنمية مع المرأة والجنس, وكنت متأثرا جدا حينها بالكتاب الروس المعارضين.
€ ولماذا انتقلت من كتابة الرواية إلى كتابة المسرحية؟
في المسرح يمكن للكاتب أن يشاهد ويعيش جدوى نصه الأدبي, هناك تجسيد مباشر بين نص وجمهور, وهناك علاقة عضوية لا نجدها في النص الروائي, على الرغم من ان كتابة النص المسرحي بالنسبة الينا نحن الكتاب العرب هي أصعب بكثير من كتابة الرواية, لأنه يتطلب خلق دور كبير للشخصيات وللفرد, وفي المجتمع العربي ليس ثمة مكان للفرد.
€ مَسْرحتَ رواية «نجمة» لكاتب ياسين, فماذا تحدثنا عن هذه التجربة؟
لقد قمت باقتباس عمل كان ياسين يحبه, وهذا العمل كان أول نص لكاتب عربي يعرض على خشبة مسرح «لاكوميدي فرنسيز», وفعلت ذلك لأن كاتب ياسين أديب مهم جدا, وله فضل كبير على المسرح, وهو رمز لاستقلالية المثقف عن السلطة, فرغم شهرته ظل إلى آخر حياته ضد كل السلطات, وحين تعرفت الى كاتب لأول مرة كان عمري 14 سنة, وحين لم يبق في الجزائر مكان واحد يتاح فيه للكتاب والفنانين حرية اللقاء, كان مسرح كاتب ياسين هو المتنفس الوحيد لنا, وكان بمثابة واحة حرية في المحيط الدكتاتوري.
لقد تعرفت الى محمد قاسمي, ومعه أجريت هذا الحوار حين استضافته دمشق اخيرا بصفته مشرفا على مجموعة «كتابات جوالة» وقد تقدم إلى هذه الفعالية بنصه «بيروت إشراقات» الذي ترجمته إلى العربية حينها حنان قصاب حسن, والنص جميل وجريء جدا ويكشف عن علاقة خاصة بالعاصمة بيروت وقد سألته عنها فقال:
على العكس كتبت هذا النص لأنني كنت مقيما في لبنان ولم يتسن لي زيارة بيروت, وفيه حاولت ان أتخيل هذه العاصمة التي كانت واحدة من أهم العواصم العربية إلى أن قرر العرب تهديمها, فأنا أعتقد أن الحرب الأهلية لم تكن لبنانية بل عربية, وقد دهشت أمام طاقة النسيان لدى اللبنانيين, فاليوم يتصرف المواطن اللبناني وكأنه لم يعش سبعة عشر عاما من الحرب.
€ تهتم بدراسة الأديان, وفي نصوصك نسف لكل الخطوط الحمر؟
اهتمامي بالأديان ينطلق من تساؤل واحد, لماذا ارتبط الدين بالعنف؟ ففي كتابي «اعتراف ابراهيم» مثلا انطلقت من صورة موجودة في كل الأديان السماوية, وهي التضحية بالبشر, فحين طلب الله من إبراهيم دليلاً على إيمانه, كان الدليل أن يذبح ابراهيم ابنه ويقدمه قربانا لله, وإبراهيم هو مؤسس دين الإله الواحد, وأتساءل لماذا يبدأ تاريخ الديانات بتاريخ القتل, ولماذا مقتل الابن هو الحجر الأساس للأسطورة الدينية؟ وأعتقد بهذا الخصوص ان الكتابة هي نوع من الصراحة, أن يصارح الكاتب إلهه وضميره وتاريخه وحاضره, وأنا أتجرأ على الدين لأنه جزء من طفولتي والإسلام ملكيتي الشخصية أتصرف به وأعمل ما أريد.
€ وماذا عن كتابك «ولادة الصحراء»؟
بالنسبة الى كتابي «ولادة الصحراء» فقد كنت فيه ضد فكرة الغربيين القائلة بأن الصحراء هي الفضاء الروحي والشعري للعرب, فحين رجعت إلى مفهوم العرب ذاته وجدت ان الصحراء لا وجود لها كفضاء شعري بالنسبة الى أهالي الصحراء أنفسهم, ففي المعلقات الشاعر لا يتغزل بالصحراء كفضاء, بل يتغزل بالعشب والماء, وشاعرية البدو تأتي من الماء من الواحة داخل الصحراء, بل على العكس إنهم يخافون الصحراء فهي ليست بيئة سهلة.
€ في العام 1992 كتبت دراسة بعنوان «عربي, هل قلت عربي» فماذا جاء فيها؟
كانت دراسة في صورة العرب والإسلام داخل الأدب الغربي وكنت أتساءل عن الأسباب التي تجعل الغرب في وضع مأزوم مع الإسلام والعالم العربي؟ حيث لا توجد علاقة طبيعة فإما هي علاقة حب جنوني أو بغض جنوني, وانطلقت في دراستي هذه من مقتطفات لأهم كتاب الغرب, ومن الرغبة في الرد على الشكوى العربية التي تدعي بأن الغرب يحاول تشويه صورة العرب والمسلمين, كأن الصورة الشخصية هي مسؤولية الآخر, صورتنا هي مسؤوليتنا, إذ لا يمكن أن نطلب من المرآة انعكاسا جميلا حين نكون في قمة البشاعة, وأعتقد أن المؤامرة الوحيدة ضد العالم العربي, هي العالم العربي نفسه.
حوار: تهامة الجندي
Messages les plus consultés
-
لزوبعة الذهنية أسلوب العصف الذهني Brain storming ، أو ما يعرف بالقصف الذهني أو الزوبعة الذهنية: إن مصطلح العصف الذهني يعد أكثر استخ...
-
ساهم علماء الجزائر في حركة التعليم والتأليف مساهمة فعالة، وليس أدل على ذلك من وجود العشرات من العلماء الجهابذة الذين بلغوا درجة الاجتهاد وال...
-
إن منح الزمان أن تجد أناسا لله قائمين بالنصح والإرشاد والدعوة والتعليم ومن بين هذه النفحات الغالية وجود الزاوية العظيمة زاوية سيدي محمد بن أ...
-
تبهاعبد المنعم ، في 24 يناير 2011 الساعة: 22:25 م رحلتي إلى توات قرأت كثيرا عن منطقة توات، بحكم الاهتمام بموضوع...
-
ظهرت الزوايا في المغرب الإسلامي منذ القرن السادس الهجري، الثالث عشر ميلادي، حيث حلت تدريجيا محل الرباط، ثم تطورت مهامها وتوسعت على يد المراب...
-
سم الله الرحمان الرحيم هذه هي المجموعة الثانية للمخطوطات وقد وضعت العنوان ومؤلف المخطوط وان شاء الله سوف اضع البطاقة الفنية للمخطوطة بالتع...
-
قائمة منشورات دار الغرب الإسلامي / بيروت كتبه مشاري القحطاني بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أسعد الله أوقات ال...
-
ظهرت ولاية الجلفة بمقتضى التقسيم الإداري عام 1974 للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، وهي تضم 36 بلدية، و12 دائرة يزيد تعداد السكان ل...
-
كتبها محمد علي قاسمي الحسني ، في 9 يوليو 2010 الساعة: 23:10 م عرفت الجزائر بدورها عددا هاما من الزوايا أدت أدوارا أساسية في تاريخ المنطقة...
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire